كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم، وهذا التشبيه يقتضي فراقها، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد.
واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء، فيكون العود سابقا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟
وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} من قبل أن يباح التماس شرعا، والوطء أولا حرام، موجب للتكفير، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب.
وأجاب آخرون: بأنّ قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالوا} معناه ثم يريدون العود، كما قال تعالى: {فَإِذا قرأتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] وكما قال: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم: إذا أراد أن يغشى كفّر.
واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المظاهر بالكفارة، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال، فتكون الكفارة واجبة، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم.
والجواب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك السؤال عن ذلك، لعلمه به من خولة، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من طريق يوسف بن عبد اللّه بن سلام قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل اللّه تعالى صدر سورة المجادلة، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوما، فراجعته بشي ء، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم اللّه ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فما برحت حتّى نزل القرآن... الخبر. فإنّ ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها، المكنّى عنه ب: يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد اللّه بن سلام.
واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق، بأن اللّه تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني، والإمساك المذكور معقب لا متراخ، فلا يعطف بثم، بل بالفاء.
والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ، ومثله يجوز فيه العطف بثم، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه.
وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ ثان، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر الموصول، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك، وجعله حرّا.
وقد أطلق اللّه الرقبة هنا، ولم يقيّدها بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر، وقالوا: لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان، كما بينه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه اللّه، ويقيد ما قيده، فيعمل بكلّ منهما في موضعه، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي: شرط اللّه سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة، وأطلق هنا، كما شرط العدالة في الشهادة، وأطلق الشهود في مواضع، فاستدللنا به على أنّ ما أطلق على معنى ما شرط.
على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض اللّه الصدقات، فلم تجز إلا لمؤمن، وكذلك ما فرض من الرقاب، لا يجوز إلا لمؤمن.
قال الشافعي: وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال: ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمول على واجب الشرع، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم.
ومما يدلّ على هذا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة: «ائتني بها»، فسألها: «أين اللّه»؟ فقالت: في السماء. فقال: «من أنا»؟ فقالت: أنت رسول اللّه. فقال: «أعتقها فإنّها مؤمنة»
قال الشافعي: فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها.اهـ.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق، والتماسّ كناية عن الجماع، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه، إذ طريق المحرم محرم، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه.
أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم، وسقطت عنه الكفارة، لأنه قد فات وقتها، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف.
ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها، ولو وطئها مئة مرة، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة.
وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة.
أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، فوقع عليها قبل أن يكفّر، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ذلك»؟ فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «فاعتزلها حتى تكفّر».
فحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين.
ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي اللّه عنهم، ووجه قولهم: أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم، كالوطء في نهار رمضان، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدلّ على خلاف هذه الأقوال.
{ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي الحكم بالكفارة، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بجميع أعمالكم، ظواهرها وبواطنها، ومجازيكم عليها كلها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم، ولا تخلّوا بشيء منه.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)}.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.
والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية، ومحلّ ذلك كتب الفروع، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها، كالوضوء والتيمم، والقيام من الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها.
وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة، كما لو زنى قنّ ثم عتق، فإنّه يحدّ حدّ القنّ.
وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر- فقد اختلفوا فيه، فقال الشافعية: بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية: لابد من ستين يوما.
أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين، فلو أفطر يوما منهما ولو الأخير من غير عذر، انقطع التتابع، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن يتخللها يوم يحرم صومه كيوم النحر، لأنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما فسد صومه، لأنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء المبطل تلاعب منه، فهو كالإحرام بالظهر قبل وقتها، مع العلم بذلك. ولو ابتدأ صومهما وهو لا يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما صحّ صومه، لكنّه لا يعتدّ به في الكفارة، لأنّه قطع التتابع بتقصيره.
أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط، وهو قادر عليه عادة.
وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان، وهو يسقط بالعذر.
وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم: كالسفر والمرض، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم: كالجنون والإغماء جميع النهار، فجعل الأول قاطعا للتتابع، والثاني غير قاطع له.
وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك.
واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا.
فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به.
وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم، فلم يتخلّل الشهرين إفطار، فلم ينقطع التتابع، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع.
وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به، لكان الوطء قبلهما غير آت بالمأمور به، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما، ولا قائل به غير أهل الظاهر، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام: أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب، كهرم، ومرض لا يرجى زواله، أو يطول زمانه، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه إطعام ستين مسكينا.